إشراقة
لإنجاز
مهمة تُذْكَر على نحو مطلوب ، يحتاج المرأ أن يحبّه حبًّا صادقًا
تحققُّ
عَمَلٍ ما كبير ، على نحو مطلوب – أيًّا كان نوعُه – يَتَوَقَّف على حرص القائم به
عليه؛ بل عشقه له، وأنْ يُسَيْطِرَ هو على تفكيره، ويُصْبـِح همَّه الوحيدَ،
وشغلَه الشاغل. يتخيّله وهو في زحمة الأشغال، ويُفَكِّر فيه وهو سائر في الطريق،
ويُخَطِّط له وهو يأوي إلى فراشه، ويَحْلُم به وهو يغُطُّ في النوم،ويُنَسِّق له
وهو يُمْسِك بكوب الشأي على مائدة الفطور، ويُكَدِّر له صفوَ الأطعمة الشهيّة وقد
وُضِعَت على مائدة غَدَائه أو عَشَائه، ويُشتِّت بالَه وهو يجتمع بالأحبّة
الأصفياء في فرصة هادئة، ويُنْسِيه حتى نفسَه والاهتمامَ بها، ويشغله عن كل شيء
غيره؛ فيغدو ماثلاً لديه بملامحه، وشاخصًا أمامَه بقَسَماته، وكأنه صارَ حقيقةً،
ولم يَعُدْ بعدُ فكرةً وصورةً ذهنيةً .
إذا سَيْطَرَ
شَيْءٌ ما وهو في طور الفكرة على رجل يعنيه، فإنّه يتحقّق لامَحَالَة، ولا يحول
دون وجوده عائقٌ من حسد الحاسدين، أو مكر الماكرين، أو تبييت العدوّ، أو مؤامرة
المُنَافِسين، أوأيّ نوع من المعترضين سبيلَ الخير بأيّ فتنة يُلْهِمُهم إيّاها
شياطينُ الجنّ أو الإنس، الذين يؤذيهم حصولُ حسنةٍ تنفع بني آدم بشكل من الأشكال .
الأمرُ
العظيمُ بصفة خاصّة إنما يَتَأَتَّىٰ بنصاب مطلوب وعلى مستوى مرضيٍّ إذا
صَاحَبَه عزمٌ من القائم به لايَتَكَسَّر على صخرةٍ من الحواجز والموانع التي قد
تحول دون تحقّقه لسبب طبيعيّ أو صِنَاعيّ تُوجِده يُد بشر أو تفكيرُ آدميّ، ولا
سيّما إذا عَزَّزَ العزمَ حبٌّ صادق وإخلاصٌ مُتَنَاهٍ يدفع المُحِبَّ المُخْلِصَ
إلى التضحية بكل غالٍ و رخيص في حياته، حتى بدمه القاني إذا رأى أن المهمةَ التي
هو في سبيل تحقيقها لن تتحق إلاّ بالتضحية بالنفس . ذلك أنّ الحبّ الصادق الذي
يُكَهْرِبُ كيانَ المحبّ كلَّه يصنع مُعْجِزَات، ويُحَقِّق خوارقَ عادات، يُدْهَش
لها من لايُبْصِر إلاّ السطحَ الظاهرَ من كل حقيقة في الكون، ولا يَنْفُذُ نظرُه
فيما وراءَ الظاهر الباري .
الحبُّ الذي
يُعْمِي صاحبَه والعشقُ الذي يُجَنُّ به المُبْتَلَىٰ به، مفتاحٌ ذكيٌّ
لجميع مغاليق الحياة؛ فهي كلُّها يتمّ فتُحها بمجرد وضع هذا المفتاح عليها، ولا
تعصي عليه مهما يكن قد بالغ القائمون بإغلاقها في إحكام الإغلاق. إن مُعْجِزَات
الفنّ الأثريّة، والمباني الخالدة، وحصيلات القرائح المُتَفَتِّقة، ونتائج
اليراعات التي خَطَّتِ السحرَ الحلالَ، وآثارَ الألسنة التي نَطَقَتِ
المُعْجِزَاتِ، والفتوحات الباقية التي سَطَرَتْ في جبين الخلود مَلاَمِحَها
الواضحةَ، وصنائع النثر والنظم التي لاتزال تَسْطَعُ منذ مئات السنين سُطُوعَ
النور الوَهَّاج في دياجير الظلام، وقصص الغَرَامِ العفيفِ والحبِّ العُذْرِيّ(1) التي فَاضَتْ بقِيَم ثابتة لاتزال
تستنير بها البشريّةُ في ظلام الحضارة المُعَاصِرة التي تَدَّعي التنوّر، ومنارات
التضحية والفداء والإيثار التي لاتزال شامخةً رغمَ كلّ عاصفة هَوْجَاءَ عاتية
هَبَّتْ عَبْرَ هذه القرون الطويلة، فعَصَفَتْ بكل أثر من الآثار الدَّعِيَّة التي
كانت قائمةً على غير أساس مكين من التضحية الصادقة . . هذه وغيرُها الكثيرةُ التي
لا تُحْصَىٰ كانت فيضَ الحبّ الغامر، والعشق المجنون، والإخلاص الذي لايعرف
لغةَ النفاق والتعامل بازدواجيّة الظاهر والباطن .
الحبُّ
الصادق تجاه غرض من الأغراض إذا رَكِبَ أحدًا يجعله يستوفيه – الغرضَ – مِنْ لا
شَيْءٍ؛ لأنّ الحبَّ بنفسه يُوَلِّد الأسباب، ويُنْتِج الأدوات، ويُوْجِد كلَّ نوع
من الوسائط والوسائل التي يحتاج إليها المُحِبُّ لتحقيق الغرض الذي هو بصدد
تحقيقه. المُحِبُّ قد يَنْزِلُ إلى ساحة المعركة أعزلَ فيَتَحَوَّلُ الحبُّ بدوره
أسلحةً مُتَنَوِّعَة؛ فيعود صاحبُه مُسَلَّحًا بشكل سحريّ عجيب لايَكْتَنِهُه من
لم يَتَلَبَّسْ بالحبّ، ولم يَرْتَدِ بالعشق، ولم يَتَكَهْرَبْ ببطّاريته كيانُه
الماديّ وهَيْكَلُه التُّرابيّ . المحبُّ لشيء لا يقعد عنه، مهما كانت الطُرُقُ المُؤَدِّيَة
إليه مسدودةً، أو مزروعةً بالأشواك، أو مفروشةً بالمتاريس، أو مسكونةً بالسباع
والحيّات، وكلّ المهلكات المُتَصَوَّرة.
المحبّ
الصادق لشيء من عظائم الأمور، يَتَوَجَّه نحو تحقيقه بمفرده، فيتحوّل وفدًا
كبيرًا، يَتَوَجَّه وهو مُفْلِس في كل عنصر من العناصر التي تساعده على تكوينه
منها، فلا يلبث أن يعود غنيًّا بالعناصر، لديه كل نوع من الإمكانيات، وعنده كل صنف
من الأمداد، والأيدى مشدودة إليه، والأعوان مزدحمون عليه، كلّ يعرِضُ عليه نفسه
ويُقَدِّمُ خدمتَه .
المحبُّ
الصادق لمهمة من المُهِمَّات قد يريد أن ينطق، وهو أخرس فتتجمّع لديه الألسنة،
وتحتشد إليه أنواع الحاذقين في النطق ورصف الكلمات ورصّ الأحاديث وإحسان فن
التكلم؛ فلا تخونه لغة، ولاينقصه تعبير، ولا يُعْوِزُه إفصاحٌ عن حاجة بأي نبرة
يريدها. يصبح لسانُ كلّ نوع رهنَ إشارته وطــوعَ أمــــره، يُوَظِّفــه متى شاء،
كيفما شاء، قدرَما شاء.
المهمةُ
تحقيقُها لايُحْوِجُ المرأَ إلى شيء بمثلما يُحْوِجُه إلى حبّها صادقًا، وعشقها
وافرًا، واهتمامه بها كثيفًا، وتوفُّره عليها حثيثًا. فإذا الإمكانياتُ
مُتَوَفِّرة، وإذا الوسائلُ مَحْشُورَة، وإذا الأيدي مُهَيَّأَة، وإذا الأنصارُ
حَاضِرُون، وإذا الطريقُ إليها مُمَهَّدة، وإذا تحقيقُها أسهلُ شيء، وإذا هي
حقيقةٌ ماثلةٌ أمامَه، وإذا هو مدهوشٌ أمامَ هذه القوة السحريّة التي عَمِلَتْ من
الوراء في تحقيق المهمة . وهي الحبّ الصافي الوافي الكافي الذي سَهَّلَ كلَّ مرحلة
من مراحل المهمة .
كثيرون أولئك
الذين يَتَراجَعُون عن الطريق، أو يَسْقُطون في وسطه، أو يَقْنَطُون من
مَسْدُودِيَّته، أو يُذْعَرُون من أخطاره المرئيّة أو المُتَوَقَّعَة؛ فلا
يُقْدِمُون على تحقيق الغاية، أو رفع الراية، أو المُضِيِّ في السبيل، ولا يجرأون
على إزالة الحواجز، أو كسح الألغام، أو جرف المتاريس.
وكثيرون
أولئك الذين يَشْكُون قلَّةَ الوسائلَ، وصعوبةَ توفير الإمكانيّات، وكسبِ الأنصار،
والتوصّلِ إلى الأيدي المُسَاعِدَة؛ فيرجعون أدراجَهم من حيث جاؤوا، ويقعدون عن
التحرك نحو المهمة التي كانوا قد هَمُّوا بها وقلبوها فكرةً في أذهانهم؛ لأن
الصعوبةَ التي استشعروها جَعَلَتْهم ينصرفون عن إرادتهم؛ لأن «الحبّ» قد
تَسْهُلُ «مقدمات» ولكنه تَصْعُبُ «عَوَاقِب» .
فهؤلاء وغيرهم،
لاينقُصهم شيءٌ سوى الحبّ الحقيقيّ الفاعل للمهمة التي كانوا قد هَمُّوا بها
وتَصَدَّوا لها؛ فلم يَثْبُتُوا في مُوَاجَهَة مشكلة أو مشكلات بسيطة في سبيلها
فضلاً عن أن يَصْمَدُوا في سبيل مواجهة مشكلات مُعَقَّدَة . الحبُّ الحقيقيُّ
الفاعلُ لايجبن ولايتكاسل، ولاينهزم ولايتحطّم، ولا يُذْعَر ولايخاف، ولا يلتفت
يمينًا أو شمالاً، فضلاً عن أن يرجع إلى الوراء. إنّه لايعرف إلاّ التقدّمَ،
ويَجْهَلُ كلَّ معنى إلاّ معنى الإقدام والمضيّ قدمًا؛ لأنّه لايَقْرَأُ لغةَ
العقل والتبصّر، وإنّما يستجيب فقط لدواعي العاطفة المجنونة والتهوّر العشوائيّ
الذي ربّما يدفع المرأَ إلى صنع عظائم الأمور التي لم ولن يقوم بها ذوو العقل الذي
يدعو دائمًا لوضع المصالح في الاعتبار .
إذا أردتَ أن تُحَقِّق
غايةً كبيرة، وأن تقوم بمهمة تُذْكَر وتُشْكَر، يجب أن تَتَكَهْرَبَ بحبّها
وتُجَنَّ بعشقها، وتجعلها أحبَّ إليك من الماء البارد في أيام السموم اللافحة، ومن
الحجرة الدافئة في ليالي الشتاء القارس؛ وأن لاتنهار أمامَ ملامةِ لائمٍ لجوجٍ في
شأنها؛ وأن لاتُحدِّثُك نفسُك بالتراجع عنها، مهما ازدحمت عليك المُثَبِّطات،
وكثرت عليك المُحْبـِطَات، وأحاطت بك الانتقادات، وكِيْلَتْ لك الاتّهامات،
وفُرِشَتُ طريقُك بالأشواك، وزُرِعَتْ بالعوائق بأنواعها، ونُسِجَت ضدَّكَ
المؤامرات، وحِيْكَتْ عليك الدَّسَائس، وتَنَادَرَ عليك الفُضُولِيُّون – الذين
يشتغلون بما لا يعنيهم – عندها لن يمنعك شيء عن تحقيقها؛ لأنك تجاوزتَ الموانع،
وتساميتَ على المتاريس، وهزمتَ الأعداء الذين كان من شأنهم أن يرجع بك عن قصدك
النبيل، ولم يبق لك إلاّ أن ترى مطلبَك – الفكرةَ – حقيقة على أرض الواقع .
كلُّ الذين
سبقوك إلى إنجاز مُهِمّة شريفة، وتحقيق مشروع عظيم، واجهوا ما واجهتَه من المشكلات
والحواجز، فتَصَرَّفُوا معها مثلَما تَصَرَّفْتَ، وتخلَّصوا منها بنفس الأسلوب
الذي أعملتَه في التخلّص منها؛ فاستحقّوا ثناءَ جميع الشرفاء الذين يُثَمِّنون
جهودَ المخلصين، ويقدرون عظمةَ الأعمال التي قاموا بها، فلم يَسَعْهُمْ إلاّ أن
يشكروا مَساعِيَهم، ويُشِيدوا بمُنْجَزَاتِهم. وهكذا يصنع معك الشرفاء الحاضرون
والقادمون الذين لايخلو منهم زمان مهما كَثُرَ فيه الأشرار المُتَنَكِّرُون
للنُّبْل والشَّرَفِ .
قال العلماء:
«المطايا
على قدر البلايا» أي الأجر يناله العاملُ على قدر مشقته في
العمل؛ فإن كانت قليلة، كان الأجر قليلاً، وإن كانت كثيرة شديدة، كان الأجر كبيرًا
كثيرًا؛ فبقدر بلائك في تحقيق الإنجاز الكبير، تنال ثناء المثنين ، وشكر ربّك
الشكور الذي لايخفى عليه خافٍ .
هذا إذا
قصدتَ الخيرَ أي ثواب الله ونفع الخلق، وتجنَّبْتَ الشرَّ: أي السمعةَ الكاذبةَ
لدى الناس والذكرَ الواسعَ في المجتمع البشريّ. أمّا إذا أردت من وراء عملك دنيًا
تحتاج إليها من المال أو الوسائل الماديّة؛ فذلك يحصل لك إذاشاء الله؛ ولكن على كل
حال إن القيام بأمر جليل – بنية الدين أو الدنيا – إنما يتوقّف على أن تجتهد
وتُوَاصِل وتصبر . تجتهد للقدر الذي لابدّ منه لإنجاز مهمة، وتُوَاصِلَ الاجتهادَ
إلى أن تنجح في إنجازها، وتصبر على كل أذى ينالك من المعيقين والمحبطين،
والمنتقدين والمتنادرين، والفضوليين والحاسدين، والمتآمرين ومن إليهم، من الأشرار
الذين لايغفرون لإنسان ما «حسناتهم» فضلاً عن
أن يغفروا له «سيئاته».
وَفَّقَكَ
اللهُ وإيَّانا جميعًا لكل خير، وصانك من كل شرّ .
(
تحريرًا في الساعة الواحدة من ظهر يوم الثلاثاء: 1/من ذي القعدة 1428هـ = 13/11/ 2007م ) .
أبو
أسامة نور
*
* *
مجلة الداعي الشهرية
الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1428هـ = ديسمبر 2007م يناير
2008م ، العـدد : 12 ، السنـة : 31.